يتم التعامل مع الأدب المترجم كجزء من الثقافات التي يأتي منها فيتحدد الموقف منه انسجاماً مع الموقف من هذه الثقافات، وربما يزيد البعض على ذلك حساسية (بمعناها السلبي) إضافية في هذا التعامل انطلاقاً من تأثيره على هذه الفئة العمرية على شكل حرص مغلف بخوف مبالغ فيه. يمكن تحديد قطبين لهذا التعامل تندرج بينهما درجات من التفاصيل في القبول والرفض: نظرة الفكر المستورد المغلفة بنظرية المؤامرة والاستهداف من جهة، ونظرة القبول التام دون مراعاة الخصوصية الثقافية والحساسية الثقافية بمعناها الإيجابي. وهذا ليس أمراً غريباً، فهو ينطبق على كامل العلوم الإنسانية، ويمده البعض المغالي حتى إلى العلوم الطبيعية. فالحساسية بمعناها الإيجابي ضرورية كأساس للفهم والتفاعل الثقافي في جميع جوانب المعرفة، وحتى في أكثرها عمومية، كالنظرة إلى حقوق الإنسان وانعكاسها في العمل الثقافي والمجتمعي (Ife, 2008). من وجهة نظري فإن النظرة المتوازنة لأدب الأطفال المترجم ينبغي أن تقوم على ركيزتين أساسيتين تتسعان فيما بينهما لمساحة من الحوار وتبادل وجهات النظر بعيداً عن النظرتين القطبيتين، هما: اعتبار الاطلاع على الثقافات الأخرى مصدر إثراء ونضج ذهني للطفل من جهة ودرجة معقولة من مراعاة الخصوصية من جهة أخرى. يضاف إلى هاتين الركيزتين بعد ثالث يتعلق بطبيعة أدب الأطفال، بغض النظر عن الثقافة التي ينتمي إليها، أو اللغة التي يكتب بها، وهو الإيفاء بالمبرر الأساسي لتسميته أدباً- الإمتاع وفي الوقت نفسه قدرته على حمل رسالة بما لا يتناقض مع أو ينتقص من دوره في الإمتاع.
من خلال تجربتي كعضو في برنامج تطوير أدب الأطفال
الفلسطيني الذي أطلقته وزارة الثقافة الفلسطينية 1996، ومن ثم كمتدرب في الدورة
الأولى التي عقدت بمساعدة منظمة دياكونيا السويدية وبالتعاون مع وزارتي الثقافة
والتربية، لإعداد فريق المدربين الأساسي الذي عهد إليه أن يطلق كرة الثلج الكبيرة
في التدريب في هذا المجال، ومن ثم كمدرب في الفريق الذي شارك في تدريبات أمناء
مكتبات ومشرفين تربويين ومعلمين ليقوموا بتدريب أعداد كبيرة من الطواقم التي رعت
نشر أدب الأطفال والاهتمام به في المدارس الفلسطينية وفي عدد من مكتبات الطفل في
العديد من المدن والقرى والمخيمات، ومن ثم كمحاضر جامعي اقترحت أن يحتوي برنامج
إعداد معلمي المرحلة الابتدائية مساقاً في أدب الأطفال لأن غياب ذلك كان يعتبر
بالنسبة لبرنامج قسم مثل هذا القسم نقصاً في المهارات الضرورية لمعلم المرحلة
الابتدائية الدنيا. خلال كل هذه التجارب كان الانحياز إلى الفهم المسطح لأدب
الأطفال كوسيلة تربوية وعظية مباشرة في اللغة المستعملة وفي الأفكار المتضمنة عقبة
كأداء تقف في وجه الجهود التي تعمل على إخراج الغالبية العظمى من المتدربين
والطلبة من إسار هذه النظرة التقليدية والانطلاق إلى الدور الأوسع لأدب الأطفال
القائم على التذوق وتنشيط المخيلة وإعمال العقل في التساؤل والتحليل، كمدخل للأثر
التربوي بعيد المدى وليس الآني المباشر. ويمكنني القول بدرجة عالية من الثقة أن
الأعمال المترجمة التي أدخلها البرنامج في المكتبات التي أسست وفي الدورات
التدريبية كان لها الأثر الكبير في التغلب على تلك العقبة. لقد كانت المناقشات
تنصب دائماً على “الرسالة التربوية” للقصص التي يتم نقاشها بصوت يعكس صوت الوعظ
الكبير: صوت “الأستاذ” الذي يعرف ويريد للطفل أن يعرف ما يعرفه هو وبالطريقة التي
يريدها هو. وحين نشرت بعض قصصي للأطفال كانت تعليقات البعض وانتقاداتهم تصب في
الاتجاه نفسه، اتجاه لا يكلف صاحبه نفسَه أن يضع نفسه في موقع الطفل المتلقي. فإذا
قلنا عن طفل أنه أبدع “حيلة” لطلب ما يريد أو يتمنى اتهمونا بأننا نعوّده على
الغش، وإن تضامنّا مع المخطئ أو من ينسى واجبه اتهمونا بأننا نشجع الكسول كما أشار
بعض المنتقدين لموقف زينة في قصتي ” البنت التوتية” (الكيلاني، 2012) وموقف الفيل
الصغير فلفل في قصتي “الفيل والبلبل” (الكيلاني، 2001)، وإن تحدثت القصة عن الموت
قالوا هذا كثير على نفسية الطفل ولا يجب التطرق إليه (كالدهولد وأوين، 2005). ومن
التجارب الغنية التي عشتها وجعلتني أقترب أكثر وأكثر وأتعلم الكثير من الأطفال
تجربتي ضمن برنامج تطوير أدب الأطفال الفلسطيني المذكور كقارئ ومناقش للقصص لجمهور
من الأطفال، حيث سمعت منهم أفكاراً وتعليقات لم يخطر ببالي أن يتطرقوا إليها قبل أن
أتعامل معهم مباشرة. ومن القصص المترجمة التي كانت تثير نقاشات، حول موضوعها،
تتباين تبايناً كبيراً بين ما يطرحه الكبار من معلمين أو مشرفين أو ما يطرحه
الأطفال أنفسهم، كانت قصص “ليلى ترحل من البيت” وقصة “هل تستطيعين الصفير يا
جوانا؟”، و”وداعاً يا رونه”، وبعض القصص من سلسلة “السيد ـــ” المعروفة، خاصة قصة
السيد فوضوي. وللإنصاف لا بد من الإشارة هنا إلى أن عدداً من القصص الصادرة عن دار
الفتى العربي، مثل قصص زكريا تامر، كانت تنحى المنحى المطلوب ذاته.
وهنا سأحلل قصة “ليلى ترحل من البيت”، كمثال على هذا
النوع من أدب الأطفال، والتي قرأها الأطفال وناقشوها باستمتاع، كما نوقشت في دورات
تدريبية وأثارت العديد من الأسئلة للكبار والصغار.
قد يصدم الذين يسلمون بالدور التربوي المباشر لأدب
الأطفال ويفسرون ذلك بالقول بضرورة بساطة هذا الأدب، ويفسرون البساطة بالسطحية
والمباشرة والحركة الخطية، أكثر ما يصدمون عند قراءة عمل مثل قصة الكاتبة السويدية
استريد ليندجرين “ليلى ترحل من البيت” (ليندجرين، 1993)، وهم لا يدرون أنهم بذلك
يسلبون الأدب أهم مقوماته: الإمتاع. لقد استطاعت الكاتبة أن تقدم البساطة الطفولية
في تفاصيل تفتح المجال للتساؤل والمقارنة والتأييد والرفض لما تفعله ليلى أو أي من
الشخصيات الأخرى في القصة. لقد استطاع هذا التفاعل إيصال الرسالة، الموضوع، الرأي،
عبر إشراك القارئ، طفلاً كان أم بالغاً، في نقاش قائم على فرز الإيجابي عن السلبي،
والمقبول عن المرفوض أو المستهجن، ليقول في النهاية لو كنت مكان ليلى لما فعلت كذا
أو لفعلت كذا. باختصار، استطاعت الكاتبة أن تقدم رسالة تربوية إلى جانب الاستمتاع
بقراءة القصة، لكنها ليست رسالة وعظية، حيث ابتعدت الكاتبة عن وضع كلمات في فم
ليلى تعبر عن الندم واستيعاب العظة من الحدث كما يمكن أن يفعل كاتب وعظي “تربوي
تقليدي” يجهز الموعظة للطفل كما تجهز الأم شطيرة غير مشتهاة، أو حبة دواء مر مغلفة
بطبقة رقيقة جداً من السكر. هذه القصة نموذج ناجح لتقديم الأدب الذي يربي ولا يعظ،
ويشرك القارئ ولا يحتويه. سأحاول هنا أن أتتبع جذور هذا الاستخلاص عبر تحليل عناصر
القصة، على الرغم من أن مثل هذا الاستخلاص من أي قارئ لا يحتاج إلى أي تبرير، إذ
أن وصول القارئ إليه هو غاية المنى بالنسبة للكاتب وعمله الفني.
تنتمي “ليلى ترحل من البيت” إلى الأدب الواقعي في
شخصياتها وأحداثها وأماكنها، بمعنى أن شخصياتها تنتمي إلى أشخاص طبيعيين نراهم
يومياً، إذ أن شقاوة الأطفال وعنادهم هي ظاهرة يومية لدى الأسر. إلاّ أن الواقعية
هنا اختلطت بالخيال الطفولي الذي يعامل الدمية معاملة الإنسان بالحديث والمشاعر
مثل اعتقاد ليلى بأن نجوى وأيمن قد ضربا بامسي (ص 4). إضافة إلى ذلك فإن الزاوية
التي التقطت الكاتبة منها الأحداث هي زاوية غير مألوفة تمزج بين الواقعي العادي
(تفاصيل الحياة اليومية في البيتين بيت حسان والسيدة سلمى)، والحلم (حلم ليلى)،
وغير المألوف والمبالغ فيه (تمزيق الكنزة وقرار الرحيل).
تشكل ليلى الشخصية المحورية في القصة التي تحرك
الأحداث بقراراتها وأفعالها واستجابات الآخرين لهذه القرارات والأفعال. وقد رسمت
الكاتبة تفاصيل هذه الشخصية بعناية تجعل القارئ يتحسس ملامحها ويستمع إلى نبرات
صوتها ويتعرف على مشاعرها نحو ما يجري حولها مع كل فقرة ومع كل صفحة في الكتاب.
وقد تم ذلك من خلال إيراد التفاصيل المتنوعة بشكل مستمر متنامٍ (عيد ميلادها
الخامس- ص3، كانت ترتدي سروالاً قصيراً وقميصاً صغيراً وزوجاً من الجوارب- ص8، قبل
هذه اللحظة كانت ليلى غاضبة فقط، أما الآن فكاد يجنّ جنونها- ص13، سأقول بأن كلباً
قد أحدث ذلك- ص 16، ابتسمت ليلى ابتسامة عريضة وهي تنظر إلى السيدة سلمى- ص31،
وأخذت ليلى تقفز من الفرح- 36، ظهر السرور على وجه ليلى- ص49، كان صوتها يرتجف-
ص58، وهي تجهش بالبكاء- ص 60، رمت بذراعيها حول عنق أمها وضمتها بأقوى ما تستطيع-
61). لقد ساهمت هذه التفاصيل في رسم صورة ليلى في ذهن القارئ، بمساعدة الرسوم
طبعاً، كشخصية مكورة عميقة غنية بالتفاصيل تنمو مع كل صفحة ويبحث القارئ عن مزيد
من التفاصيل ليضيفها إلى ما تشكل لديه عند كل مرحلة. يقود هذا العمق والتنوع في
شخصية ليلى إلى التفاعل مع الشخصية دون تقمصها من قبل القارئ طفلاً كان أم بالغاً،
مما يترك بين القارئ والشخصية مسافة كافية للنقد والتفكير. فقد تغيرت هذه الشخصية
أمام عيون القارئ من صفة ما إلى ضدها: عنيدة (ضرباه حقاً حتى لو لم يكن لديهما
وقت. رأيتهما يفعلان ذلك- ص4)، ذكية (فكرة استخدام السلة- ص43)، محقة (عدم رغبتها
بلبس الكنزة البيضاء- ص8)، مخطئة (نعت عائلتها باللئام- ص 19)، عفوية في تصرفاتها
وتخطط أحياناً “بدهاء” لتصرفاتها ( لم يحن الوقت بعد لكي تظهر الرضا- ص12). ويمكن
إيراد المزيد من الأمثلة على صفات أخرى مثل: شجاعة، تخاف من الظلام، مزاجية،
عصبية، مرتبة وتحب النظافة، تحب أهلها، لا تحبهم، مكابرة وتعترف بالخطأ. صحيح أن
شخصية ليلى قد نمت نحو الأعلى من ناحية توازنها مع محيطها واستوعبت التجربة
واعتذرت وتلقت الاعتذار، لكن هذا النمو لم يكن نمواً خطياً مبرمجاً بطريقة آلية من
قبل كاتب يجردها من صفاتها المتعددة من أجل فكرة معدة سلفاً، بل كان نمواً
متصاعداً بشكل لولبي يتقدم ويتراجع ثم يتقدم.
ويمكن أن نلمس العمق في شخصية ليلى من خلال مقارنتها
بشخصيات نمطية سطحية مأخوذة من عدد من قصص الأطفال التي تنحى المنحى الوعظي مثل
بعض القصص المنشورة في سلسلة “المكتبة الصغيرة” (سعودي، ب.ت): البطة الطيبة،
والدبة الكسلانة (ماذا تبقى لنا وللطفل لنسبره في هذه الشخصية، هل سيعارض أحد ما
الطيبة أو يستنكف عن إدانة الكسل؟)، حفلة بابا( أكيد ستكون ممتعة، من يجرؤ على قول
عكس ذلك؟)، ومن مكتبة “أنيس الطفل” ( السحار، ب.ت) هناك عناوين مثل: مشمش المغرور،
والكتكوت المغرور، والحصان الطماع، والطحان البخيل، (من يستطيع تخيل نتيجة غير شجب
الغرور والطمع والبخل؟).
تقع شخصيتا والدة ليلى والسيدة سلمى في المرتبة
الثانية من حيث دورهما في البناء القصصي، وهما شخصيتان مكملتان لبعضهما البعض،
وهما غير عاملتين على ما يبدو لبقائهما في البيت خلال وقت الدوام (يذهب أيمن ونجوى
إلى المدرسة، بينما يذهب الأب إلى عمله. وهكذا تبقى الأم وليلى وحدهما في البيت-
ص6). ظهرت أم ليلى في القصة كشخصية حازمة بإصرارها على موقفها من مزاج ليلى العصبي
في ذلك الصباح ومن عنادها تجاه الكنزة البيضاء. غير أن هذا الحزم لم يعنِ
الاستخفاف بليلى، بل على العكس فقد بدأت بالحديث مع ليلى عن حلمها وعن افتراضها
القائم على اعتداء أيمن ونجوى على الدب، وأخذت ذلك مأخذ الجد وحاولت مناقشتها بشكل
منطقي ( يا عزيزتي ليلى. لا بد أنه كان حلماً. فأيمن ونجوى قد غادرا إلى المدرسة.
ومن المؤكد أنه لم يكن لديهما وقت ليضربا صديقك بامسي. – ص4). وحين زاد الأمر عن
حده كانت حازمة (عودي إلى غرفتك وامكثي حتى ترجعي إلى أدبك من جديد- ص 13). إلاّ
أن هذا الحزم لم يتحول إلى قسوة أو فقدان الحنان ولو مؤقتاً، إذ أن الأم جاءت
لزيارة ليلى وإشعارها بأهميتها ( “طبعاً أنا أبكي على فراق ليلاتي الصغيرة” –
ص49)، وبتقديم الهدية لبيت ليلى الجديد ( “جئتك بهدية……هكذا العادة حينما ينتقل
الناس إلى بيت جديد ” – ص50)، كذلك كانت الأم متفهمة لتصرفات ليلى وتقبلت أسفها
على تمزيق الكنزة الصوفية، الفعل الذي مثّل قمة تمرد ليلى، ولم تقف الأم عند هذا
الحد بل أعلنت أسفها على ما بدر منها.
احتلت شخصيات والد ليلى وأيمن ونجوى دوراً مساعداً في
بناء القصة، وبالتالي رأيناها أقل عمقاً وتكوراً من الشخصيات السابقة. هل كان دور
الأب دور الوسيط بين ليلى وأمها لأن المشكلة في الأساس بين ليلى والأم، أم لأن
الفروق “الجندرية” في الأسرة تجعل مهمة كل من الأم والأب على النحو الذي رأيناه.
لو كانت المشكلة بين ليلى والأب هل كان دور الأم سيظهر على النحو كان عليه دور
الأب، أو لو كانت المشكلة بين الوالد وأيمن هل كانت الأدوار سترسم بالشكل الذي
رسمت عليه؟ أما أيمن ونجوى فقد تصرفا بشكل يتناسب مع اهتماماتهما، فلم يكن المهم
بالنسبة لهما مسألة الرحيل، بقدر ما كان الانبهار بالبيت الجديد وألعابه وحسد ليلى
على ذلك. صحيح أن عبارات نجوى فيها نوع من “المجاراة”، ولكنها أيضاً احتوت على
اهتماماتها الطفولية، فبعد أن التقطت نجوى اللعبة لارا وملابسها، وبعد أن حذرتها
ليلى من لمسها، (قالت نجوى بنبرة رجاء: ” ألا تسمحين لي باللعب بها لوقت قصير
فقط؟” – ص49).
رغم أن بامسي ولارا كانا دميتين إلاّ أن دورهما كان
أساسياً في البناء القصصي. فقد مثل بامسي الصديق العزيز الذي يتم اللجوء إليه عند
الضيق وعند شعور ليلى أن الآخرين لا يفهمونها أو لا تفهمهم (ثم ضمت بامسي بين
ذراعيها وشدته إلى صدرها وهي تغمغم: “هذا ما يستحقونه يا بامسي. إنهم جميعاً لئام
معنا” – ص18)، (وأخذت تضم بامسي إلى صدرها بمزيد من القوة- ص57). أما لارا فقد
مثلت أداة تتحكم بها ليلى كرد فعل لما تعتقد بأن الآخرين يفعلونه بها، وقد خدم هذا
الجزء من العلاقة بين ليلى ولارا في كسر التضامن الكلي بين القارئ وليلى، ولعله
كان جزءاً مخططاً بعناية من الكاتبة لتكسر إمكانية تقمص الأطفال لشخصية ليلى أو
النظر إليها بدرجة الكمال كمظلومة أو محقة. (الثوب الأبيض المطرز. إنه الأفضل. سوف
يسمح لها بأن تلبسه في يوم العطلة الأسبوعي فقط.- ص41)، وهذه هي المشكلة أساساً
بين ليلى وأمها.
أما من حيث الحبكة، فإنه عند النظر إلى القصة نظرة
إجمالية نستطيع القول بأنها اتبعت قي بنيتها العامة النمط التقليدي في البناء
القصصي: مقدمة – عقدة – نهاية. تمثلت المقدمة في الاستيقاظ من الحلم بمزاج عصبي من
تصديق حلم قائم على الاعتداء على بامسي من قبل أيمن ونجوى. تتفاعل المشكلة مع
الحالة النفسية لليلى (لم تتضمن القصة تلميحاً ولو ضمنياً لهذه الحالة النفسية)
التي تترجم إلى عناد طفولي غير مألوف لتبلغ الذروة في القرار غير العادي: الرحيل.
ثم تتهيأ مجموعة من الظروف التي تمكّن من الهبوط التدريجي من هذه الذروة إلى
الحياة العادية ضمن “تبريد” للحدث القمة مستمد من قدرة المحيط على تفهم ليلى
وتزويدها بصدمات متفاوتة بين الرضا والمعارضة أدت بها في النهاية إلى العودة إلى
التوازن النفسي والتعايش مع المحيط، لكنه ليس تعايشاً استاتيكيا. ولكن عند النظر
إلى التفاصيل نستطيع رؤية بؤر متعددة أو قمم في النسيج القصصي. فعلى سبيل المثال
يمكن النظر إلى مقدمات فكرة تمزيق الكنزة (ألقت الكنزة على الأرض، ثم توقفت وقد
سيطر عليها هدوء مفاجئ- ص14)، ثم تنفيذ تمزيقها (هذا ما تستحقين لأنك تَخِزين
وتخدشين- ص15)، ثم حل الصراع بعد ذلك بالتصميم على موقفها بتثبيت ادعائها (قالت
بإصرار: “ثم إن كلباً هو الذي فعل ذلك على كل حال” – ص19)، يمكن النظر إلى هذا
الجزء بشكل مستقل على المستوى الجزئي. مثال آخر على هذا التكوين الجزئي مقدمات
قرار ليلى بالعودة ثم عودتها ووصولها إلى البيت والاستقبال الذي استقبلت به من قبل
الأم (ص ص 58-60).
أما من حيث الإطار، فقد تكون الإطار المكاني لهذه
القصة من بيت عائلة حسان وبيت السيدة سلمى، بتفاصيلهما المختلفة: الغرف والمطبخ
والسدة والحديقة. أما الإطار المكاني بمعناه الجغرافي، فهو غير محدد، إلاّ إذا
اعتبرنا أن الرسم الموجود في الصفحة 29 يشير إلى الهوية المكانية- الجغرافية
للإطار. أما الإطار الزماني للقصة فيتكون من يوم في حياة العائلتين، وهذا اليوم لا
يوجد به ما يميزه عن غيره، غير أن هناك ما يشير إلى أنه يوم ربيعي من خلال ملابس
ليلى الموصوفة بالكلمات وتفاصيل الرسوم، بالإضافة قول الأم بأن الفترة الباقية
للعيد هي سبعة شهور، على افتراض أن المقصود هو عيد الميلاد (ص 51). ولم تضف القصة
أية تفاصيل تبين الإطار الزمني بمعناه التاريخي، أي لأية فترة تاريخية تعود
الأحداث.
أما من حيث الموضوع، فإنه يمكن النظر إلى هذه القصة
عبر زوايا مختلفة ورؤية مواضيع مختلفة. الموضوع الأول هو العلاقة بين الأم
وأطفالها وهو الموضوع العام للعمل. المواضيع الأخرى التي يمكن قراءتها هي الموضوع
التربوي وخصائص النمو في هذه المرحلة العمرية، والعلاقة بين الجيران.
يمكن النظر إلى الموضوع من خلال طرح السؤال التالي
ومحاولة الإجابة عنه: ما الذي أرادت الكاتبة قوله؟ أو يمكننا طرحه بشكل يجسد
الشراكة بين الكاتب والقارئ: ما الذي خرج به القارئ بعد عبور هذا النص؟ صحيح أن
القصة تنتهي بكلمات ليلى لبامسي ” آتي نحو البيت والدنيا ليل وظلام” تشير إلى أن
ليلى في الأغنية هي ليلى أخرى، فهل يمثل هذا براءة ليلى هذه من ليلى تلك؟ أم
ارتباط ليلى هذه بليلى تلك ارتباط الانتقال النوعي بين القديم والجديد؟ هل نستطيع
العثور على الإجابة في كلمات هذه الجملة الختامية، القفلة الدرامية، أم علينا أن نبحث
عن جذور ذلك في النص بكامله؟ أعتقد أن النص بكامله يمهّد للخيار الثاني، والشواهد
على ذلك كثيرة، ليس في موقف ليلى من أفكارها وأفعالها فحسب، بل من خلال انعكاس هذه
الأفكار والأفعال على الكبار من حولها وتفاعلهم معها. الجملة التي اختتمت بها
القصة مشحونة بالكثير من الإيحاءات التي تسمح للقارئ بالتعمق والتخيل بعد كل هذه
الحركة “ضمت دبها بقوة وراحت في نوم عميق”. لو سمح لي بإعادة صياغة هذه المساحة
نصاً ورسماً لأسقطت “ثم” لأنني أراها مقحمة وتمنع الشعور بالانسياب والتلقائية
التي تمهد لنوم عميق، سأفكر عميقاً بأن استعمل الفعل “واسترخت” أو “استسلمت” للنوم
العميق لتعزيز الدلالة على انتصار خيار ليلى دون هزيمة الأم كرمز لعائلة حسان،
ولاستبدلت الرسم الأخير برسم لليلى مسترخية في سريرها وأبرزت الطفولة الشقية
الوادعة على وجه ليلى، كيف يمكن ذلك؟ لست أدري. ربما أرادت الكاتبة القول بوحدة
عالم الصغار وعالم الكبار وأن كلاً منهما امتداد للآخر، فقد يكبر الأطفال فجأة دون
مقدمات، كما يرتد الكبار أحياناً نحو طفولتهم أحياناً.
أما من حيث الرموز، فإنه يمكن النظر إلى مجموعة من
الأحداث عبر دلالاتها الرمزية، وهذا ما تساعد عليه الأجواء العامة للقصة إضافة إلى
المواضيع التي تعالجها هذه القصة. ومن هذه الرموز: “الكنزة” الصوفية التي رفضت
ليلى لبسها، وغرفة الخردة في بيت السيدة سلمى، والدب بامسي، واللعبة لارا. فقد
مثلت الكنزة الصوفية القالب الذي يحاول الكبار فرضه على الصغار، وقد جاء تمزيقها
تعبيراً عن الثورة على هذا القالب. أما غرفة الخردة في بيت السيدة سلمى فقد مثلت
الممنوع الذي استطاعت ليلى بلوغه بعد تمردها على القالب الذي وضعتها فيه والدتها.
أما الدب بامسي فيمثل الملجأ الذي تلجأ إليه ليلى حين تفتقد من يتفهمها. وتمثل
لارا الضحية أمام ليلى حيث مارست ضدها ما مارسته الأم مع ليلى.
لقد عبرت الكاتبة عن وجهة نظرها بشكل غير مباشر عبر
أقوال الشخصيات وأفعالها وحواراتها. كذلك لجأت الكاتبة في مواقع غير كثيرة إلى
إقحام كلماتها بالوصف الخارجي لمشاعر ليلى أو لطرح عبارات تعكس الكاتبة كعالم
بالأمور.
وقد اعتمدت الكاتبة أسلوب السرد التقليدي من خلال
الوصف، وهو أسلوب رصيده الأساسي في النجاح اختيار الحدث غير العادي الذي يشد
القارئ، وإغناء السرد بالتفاصيل التي تأتي كل جزئية منها في مكانها الصحيح لتساهم
في النسيج القصصي. لقد ابتعدت الكاتبة عن الأساليب البلاغية (إذا اعتبرنا أن
الترجمة قد نقلت الأجواء اللغوية ببعديها التركيبي والبلاغي). وقد ارتكزت الكاتبة
على أنواع مختلفة من التفاصيل، مثل:
تفاصيل المكان، وتفاصيل الحركة والأفكار الطفولية.
شاركت رسوم ايلون فيكلاند التصويرية الواقعية في
إعطاء بعد إضافي للقصة وشخوصها، حيث امتازت هذه الرسوم بالبساطة، إذ تمت باللون
الأسود من خلال الخطوط المنحنية الهادئة والقليل من الظلال. وقد سيطر رسم ليلى على
المساحة الكلية للرسم في الكتاب، إذ أنها موجودة في كامل اللوحات التي احتواها
الكتاب. الملفت للنظر أن صورة والدة ليلى قد غابت من اللوحات عدا عن صورة جانبية
بدون تفاصيل أثناء احتضانها لليلى عند عودة الأخيرة إلى البيت، أما والد ليلى فقد
اختفى تماماً من الرسوم، فيما ظهرت السيدة سلمى في لوحتين كبيرتين في وضع الحنو
على ليلى (ص26 وص32) وأخرى صغيرة (ص 29)، أما أيمن ونجوى فقد ظهرا إلى جانب ليلى
في أكبر اللوحات وذلك عندما زاراها في “غرفتها” في سدة بيت السيدة سلمى. إن السؤال
الذي يحتاج إلى نقاش هو غياب والد ليلى من الرسوم وتهميش والدتها: هل هو انعكاس
لموقف الرسامة إلى جانب ليلى، هل يمثل غياب الأب بعداً جنسياً انتقادياً لغياب
الوالد (الرجل) عن مسئوليات البيت وتربية الأطفال وإلقاء ذلك على كاهل الأم
(المرأة)؟
إن قراءة ما وراء السطور تجعل القارئ يطرح مجموعة من
الأسئلة التي يمكن أن تفتح نقاشاً واسعاً يصلح كنقاش نقدي، أو نقاش لتدريب من
يعملون في عالم الصغار كالمعلمين والمعلمات وأمناء المكتبات، خاصة مكتبات الأطفال،
والعاملين في مختلف الأنشطة الموجهة نحو الطفل. أسئلة ليس بإمكان القصة المسطحة أن
تثيرها، فكم من الأسئلة يمكن أن تثيرها قصة الولد الذي وجد نقوداً فسلمها لناظر
المدرسة فشكره الناظر في طابور الصباح؟ فكم مرة سمع الطفل مثل هذه الموعظة في
المدرسة والبيت وفي مكان العبادة، وما حاجته ليسمعها الآن في قصة؟
هل كانت هذه القصة رسالة من عالم الصغار إلى عالم
الكبار، أم رسالة من عالم الكبار (الذين تمثلهم الكاتبة ليندجرين) إلى عالم
الصغار؟ وهل كانت ليلى طفلة حقيقية أم بالغاً ينكص نحو طفولته؟ الممتع والغني في
شخصية ليلى أنها يمكن أن تكون كل ذلك في آن واحد: طفلة تتطلع نحو الاستقلال وتتنطح
بعناد لتقول لهؤلاء الكبار: لماذا تريدون منا أن نفعل ما تريدون ولا تفعلون ما
نريدكم أن تفعلوه، أو على الأقل تتركونا بحالنا؟ وهي في الوقت ذاته تمثل طفلنا
الداخلي الذي يريد أن يتخلص من ثقل النمطي والعادة والقانون.
إلى أية درجة احترمت الكاتبة هنا العقد الاجتماعي بين
الكاتب والقارئ سواء أكان هذا القارئ طفلاً أم بالغاً؟ يمكن القول بأن الكاتبة قد
أفسحت للقارئ مساحة كافية ليتحرك خلالها متفاعلاً مع النص ومعطياً إياه أبعاداً
جديدة، نقول ذلك رغم تدخلاتها المباشرة في بعض الأجزاء حين تحدثت بجمل تقريرية
صريحة لتضع وجهة نظرها (قبل هذه اللحظة، كانت ليلى غاضبة فقط. أما الآن فكاد يجن
جنونها – ص13)، (ليس من الصعب أن يرحل الإنسان إذا كان يعرف مكاناً يرحل إليه-
ص24)، (كان من عادة ليلى أن تقول …… وأن تكون لها “دال” -تعني دارا- مثل أمها –
ص35).
إلى أية درجة عكست الأحداث أجواء الصراع الداخلي لدى
ليلى قبل اتخاذ القرار الدرامي بالرحيل عن البيت وخلال مرحلة الرحيل وعند العودة.
إن التعرض لهذا التفاصيل بالتحليل يفتح الآفاق لنقاش تربوي غني وواسع. يمكن لهذا
النقاش أن يشمل جوانب الصراع ونتائجه والنمو الذي حصل في شخصية ليلى.
ما هو تأثير النوع الاجتماعي للشخوص على الأدوار التي
أسندت إليهم من قبل الكاتبة، وهل يمكن لهذه الأدوار أن تبدل بناء على تبدل النوع
الاجتماعي، وذلك بوضع أسئلة افتراضية كتلك التي طرحت عند الحديث عن شخصية الأب
وأيمن؟
المراجع
ستارك، أولف (1996). هل تستطيعين الصفير يا جوانا؟
(النص العربي: وليد سيف). استوكهولم: دار المنى.
السحار، محمد عادل. (د.ت). قصص مكتبة أنيس الطفل.
القاهرة: مكتبة مصر.
سعودي، إلهام. (د.ت). قصص المكتبة الصغيرة.
القاهرة: مكتبة مصر.
كالدهولد، ماريت، وأوين، وينش (2005). وداعاً يا
رونه. (ترجمة وليد أبو بكر). رام الله: مركز أوغاريت الثقافي.
الكيلاني، سامي (2001). بطاقة إلى ليلى. رام
الله: مركز أوغاريت للنشر والترجمة.
الكيلاني، سامي (2012). البنت التوتية. القدس:
مركز المصادر للطفولة المبكرة.
ليندجرين، استريد. (1993). ليلى ترحل من البيت.
(ترجمة وليد سيف). استوكهولم: دار المنى.
نجيب، أحمد (1982). فن الكتابة للأطفال.
القاهرة: دار الكاتب العربي.
نجيب، أحمد. (1994). أدب الأطفال علم وفن.
القاهرة: دار الكاتب العربي.
Lukens,
R. (1986). A Critical Handbook of Children’s Literature, chap. 1, 6, & 8.
In: Ula Lunqvist (choosing and
compiling of texts). (1997) Learning and Teaching Children’s Literature. Unpublished manual. Diakonia. Ife, J. (2008).
Human Rights and social Work: Towards Rights-Based Practice, 2nd ed. Cambridge
University Press.
المصدر
https://sawa.najah.edu/2019/03/13/%D8%A3%D8%AF%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B7%D9%81%D8%A7%D9%84/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق